رواية - القديس العربي‏ حارث بن كعب النجراني



تنوية:
تتضمّن هذه الرواية لائحة بمختصرات المخطوطات والمراجع العربيّة والأجنبيّة تليها المقدّمة وفيها شهادة القدّيس الحارث بن كعب النجرانيّ، ثمّ الخلفيّة التاريخيّة لهذا الاستشهاد. ويصف المحقّق المخطوطات المعتمدة للرواية العربيّة، ثمّ يورد نصّ الرواية العربيّة. في الملحق أضوار على بعض المسائل الواردة في الرواية، كتاريخ زمن الاضطهاد، والعلاقة بين اليهود والمسيحيّين في نجران. إلا ان الرواية قد يكون بها نقص او زيادة او تحريف الخ..، فهي للقراءه فقط، وقد لاتكون موثقة احداثها وما قيل فيها كما حدث، فتبقى رواية نقلت وكتبت من عدة مراجع مختلفة . إلا ان الاختلاف في صحة نقل الاحداث لا ينفي واقعة القصة.


مقدمة:
تعرفت إلى القديس العربي المعظم في الشهداء،‏ حارث بن كعب النجراني،‏ يوم شرفني سيادة المتروبوليت قسطنطين ‏‏"بابا استفانو‏" بحمل إسمه،‏ وتعلقت به، غير أن القليل المتوفر عن أخباره في كتاب السواعي الكبير حفزني للإستقصاء عن كل معلومة عنه، ثم أزكى فيني سيادة الأسقف  استفانوس حداد رحمه الله الرغبة في معرفة المزيد عن مسيحيي الجزيرة العربية،‏ بما كان يمليه علي من أخبار التاريخ العربي عن مسيحيي نجران في المخطوطات البلمندية التي تحمل الأرقام ‏131‏ و ‏153‏ و ‏154‏.‏ ثم لفت انتباهي الأب سمير خليل اليسوعي،‏ الغني عن التعريف في مجال نشر التراث العربي المسيحي،‏ إلى ما جاء في فهرس جورجغراف عن المخطوطات العربية، فتبين لي أن قصة استشهاد القديس حارث ورفقائه موجودة بأكملها في مخطوطتين عربيتين في دير القديسة كاترينا في سيناء،‏ هاتان المخطوطتان هما‏ sa.428‏ و ‏sa.535؛ وموجود منها ورقتان فقط في مخطوطة عربية في برمنجهام.

ويعود تاريخ كتابة المخطوطة العربية المنشورة،‏ التي في دير القديسة كاترينا في سيناء تحت رقم ‎ sa.428 إلى القرن العاشر الميلادي،‏ وفيها رواية عن استشهاد القديس الحارث بن كعب ومن معه من أهل مدينة نجران.‏ غير أن هذه الرواية لا تنحصر بالحديث عن استشهاد القديس الحارث وحده،‏ إذ تورد أسماء آخرين،‏ لكن أهم ما فيها هو أنها تقوم بتوثيق أحداث مهمة من الصراع المسيحي اليهودي الذي قام في جنوب غرب الجزيرة العربية،‏ في البلاد الحميرية،‏ في الربع الأول من القرن السادس الميلادي،‏ والذي كانت نتيجته إستشهاد عدد كبير من المسيحيين.

وتذهب الرواية إلى القول أن صدى هذه الأحداث لم ينحصر في البلاد الحميرية بل انتشر خبرها إلى البلاد المحيطة بها وبلغ الدول العظمى في ذلك الحين،‏ الروم والفرس والأحباش،‏ فسارع الروم والأحباش إلى نجدة مسيحيي الجزيرة العربية في ما يشبه الحلف العسكري المرتكز على تفاهم وتعاون سياسيين. يرسم مطلع الرواية الأطر الزمنية والسياسية والجغرافية وحتى الدينية للأحداث التي تؤرخها الرواية، ويصف البلاد الحميرية بالمختلفة المذاهب ويحدد سبأ مركزا للوجود اليهودي بنسبة عالية فيما نجران مركز للتواجد المسيحي بنسبة عالية، وأن الإقتتال بينهما له تاريخ طويل كان للأحباش يد فيه بسبب مساندتهم للمسيحيين الحميريين على أساس ديني. تبدأ الأحداث في الرواية عندما استعاد "دنحاس" اليهودي الملك في سبأ، بعد أن أقصاه الأحباش أول مرة، فقام بقتل الحاميات العسكرية الحبشية فيها ثم توجه نحو نجران وحاصرها ستة أشهر من دون أن يتمكن من دخولها بالقوة، فلجأ إلى الحيلة والمكر متعهدا بعدم التعرض لأهل المدينة إن هم دفعوا له خراجا. لكنه حالما دخل نكث بعهده وانتقم حتى من عظام أسقفهم بولس المتوفى، وأحرق 427 من الكهنة والرهبان وقيد أشراف المدينة ومن بينهم الحارث.

وتذهب الرواية في وصف تنكيله بالمؤمنين من المسيحيين لتقول أنه قتل 4252 نفسا و 227 من النساء المكرسات وسيدة المدينة "دهما" مع ابنتيها قبل أن يستشهد القديس الحارث، الذي قدم اعتراف إيمان وتنبأ، ومعه جمع من الشبان. ثم تنتقل الرواية بعدها لتصف استشهاد امرأة مع طفلها ذي الأربع سنوات الذي حاور الملك أيضا واعترف بإيمانه بالمسيح ثم لحق بأمه وهي في النار. وأخيرا تذكر الرواية قصة رضيع نطق مشجعا أمه على الإستشهاد في سبيل الإيمان الحق.


"المسيح عوني ورجائي ومخلصي،‏ والسيدة الطاهرة أم النور شفيعتي‏"‏.‏
هذه كلمات شهادة الحارث القديس شاهد نجران وجميع أصحابه الشهداء الذين استشهدوا معه في هذه المدينة. كان في ذلك الزمان رجل يقال له دنحاس، يهودي رشيع هارق الدم أكثر من غيره من الناس.،‏ كان قد تغلب وملك على بطين،‏ وهي البلدة التي تسمى سبأ في الكتاب الروحاني، وكل من كان في هذه البلدة سبأ ساكنا كانوا حنفاء ويهود،‏ وكانوا لا يسلكون على وصايا الناموس،‏ إلا ما كان من النهي في المأكل والمشرب مما يضر ولا ينفع،‏ وإنما يحفظ ذلك المرايين والفريسيين والصدوقيين،‏ أصحاب الباطل.‏ وكانت الدنيا كلها ممتلئة من عبادة المسيح والأمانة به،‏ ما خلا بلدة سبأ وحدها فإنها كانت كافرة،‏ وكانوا فيما يزعمون أنهم باليهودية متمسكين ولله عابدين،‏ وبالحقيقة للأوثان كانوا يكرمون، فلذلك كان القتال يكثر فيما بين ملك الحبشة المؤمن بالمسيح وبين أهل سبأ،‏ حتى أن أهل سبأ كانوا يرضون ملك الحبشة بدفع الخراج إليه والهدايا،‏ وكان الاسباس ملك الحبشة لا يحب ولا يرغب فيما يدفعون إليه من ذلك لكفرهم،‏ فكان يقاتلهم كثيرا ويتعاهد أرضهم بالجيوش حتى آذاهم جدا.‏ وكان مما يلي أرض سبأ مدينة يقال لها نجران،‏ هذه المدينة من السماء استنارت وصارت على الأمانة المستوية المستقيمة المقدسة،‏ المثلثة الأقانيم الموحدة بالطبيعة،‏ وهو الإله الواحد بإكمال حقه وصواب قدسه.

فاتفق أن ملك اليهود هزم في القتال وهرب إلى الجبال ليتحصن فيها،‏ وكان الاسباس ملك الحبشة القديس لما أن هزم عدو الله الكافر وهرب منه،‏ إنصرف حينئذ إلى أرضه وملكه وجهز خيل رابضة وولى عليهم في أرض سبأ.‏ فإذا الشيطان، مبغض خير الدنيا، لم يزل يقاتل أهل الصلاح،‏ قد حرك ملك سبأ المهزوم على الخروج إلى القتال لمن كان قد خلف ملك الحبشة بأرض سبأ،‏ فقاتلهم وهزمهم وقتلهم وجعل يقتل كل من كان من أهل الإيمان بالمسيح يسوع،‏ ولم يدع بأرض سبأ ممن كان من النصارى أحد إلا قتله مع جميع من كان قد خلفه ملك الحبشة.‏ فلما فعل ذلك حرك جيوشه للمسير إلى نجران،‏ أهل مدينة الصلاح ومحبي السلام،‏ أراد أن يبيدهم. كان الزمان شتاء" فلم يقدر ملك الحبشة أن يخرج إليه وهو محاصر نجران، المدينة العفيفة الكريمة الممدوحة، التي تأويل إسمها بالعبرانية - مدينة الرعد، والعالية التي لا تستطاع. فلما جاء اليهودي النجس إلى ناحية تلك المدينة، نجران القديسة، نظر إلى علامة صليب يسوع المسيح قائم على عود محيط بالمدينة مع جند مقاتلة. بعث منادين وأمرهم ينادون بأعلى صوتهم ويقولون "أيما رجل لم يجدف بالمصلوب ويحقر هذه العلامة الملعونة فإنه يباد ويقتل بالسيف والنار، ومن كان على ديني وكفر بما يقولون أصحاب الجليلي، مثلثة، فإنه يصيب مني كرامة عظيمة ويكون في ملكي قد فاز فوزا عظيما، واعلموا أني قد قتلت جميع من كان قد خلف ملك الحبشة بأرض سبأ ومن كان بها من النصارى، وكل كاهن وراهب قد قتلته بالسيف، وأحرقت بالنار جميع أرضهم وكنائسهم التي في ملكي، وهدمت ونسفت عن الأرض فتركتها غبار، وقد قدمت إليكم يا أهل نجران بقوة كبيرة وساعد عالي ومقاتلة مختارين وهم مائة وعشرين ألفا". ولا تتوقف الرواية هنا، بل تكمل لتقول أن "دنحاس" هذا، بعد أن بسط سلطته على كل البلاد الحميرية، دعا ملك الحيرة وملك فارس لاضطهاد المسيحيين في بلادهما، لكن كتاب دعوته ورد أثناء انعقاد مؤتمر سلام بين الروم والفرس كان فيه المناذرة حاضرين أيضا. فقام وفد الروم بنقل الأنباء إلى ملكهم "يوستين" الذي بدوره كتب إلى "تيموثاوس" بطريرك الإسكندرية وإلى ‏"الأسباس" ملك الحبشة لينجدا مسيحيي نجران، وذلك بسبب قربهما منهم، واضعا طاقاته تحت تصرفهما. وارتفعت حماسة ملك الحبشة مع قدوم رسول من نجران فتجهزت حملة برية ضد الملك الحميري لكنها أخفقت، ثم تجهزت حملة ثانية بحرية كان نصيبها النجاح، فقضي على "دنحاس" ومعاونيه. ومع عودة الملك للمسيحيين أرسل بطريرك الإسكندرية أسقفا من عنده يرعى شعب البلاد الحميرية ويعيدبناء الكنائس فيها. وتختم الرواية تلك الأحداث بأن نصرة الله لملك الحبشة وتمكينه من تثبيت المسيحية في البلاد الحميرية تركا في نفسه الأثر الكبير، ما دفعه إلى أن يتخلى عن تاج الملك ويصير راهبا.
فأما أهل المدينة فكانوا يجاوبون من فوق ويقولون "نحن أيها الملك نعبد الله الذي خلق كل شيء بكلمته، التي كان بها كل شيء، وروحه القدس الذي يحيي، وليس نعرف نحن كثرة الآلهة، ولكنا نعبد ونؤمن باللاهوت واحدة بثلاثة أقانيم، الأب والإبن وروح القدس، كيان واحد. فهو إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، كما كرزوا لنا رسله القديسين الذين أضاءوا العالم بتعليم الحق وهدوا الناس إلى سبيل الهدى، وحققوا الحق اليقين في تحقيق الحق وتصديق كلام الأنبياء الذين من قديم الدهر تبنوا وأخبروا جميع الناس بعلم الحق، لمن اتبع قولهم وصدق كتابهم وقبل ما أتوا به من عند الله، وليس فيما أتوا به من عند الله تشبيه ولا باطل، ولكنه حق واضح. وكذلك كانوا آباؤنا إبراهيم واسحاق ويعقوب وموسى وهارون وصامويل وداوود وجميع الأنبياء يؤمنون".
حينئذ غضب الملك الملعون الذي كان يرى على الناموس ولكنه كان على غير ناموس، وجعل يحاصرهم ستة أشهر بمكايدة شديدة، فلم يستطيع أن يحرك مدينة كان أساسها على صخرة الأمانة بالمسيح، التي هي مثل صهيون الشامخة - أورشليم - التي الجبال حولها والله محدق بها، وشعبه إلى الأبد. فناصب الملك الملعون لأهل تلك المدينة العداء، ولم يدع أحد ممن كان حول المدينة، في البساتين والمزارع إلا جمعهم، منهم من قتل ومنهم من وهبهم للعبودية لعظماء جيشه ورؤساء قومه. فلما علم الملعون أنه لا يستطيع لأهل المدينة لا بمكيدة ولا بمقاتلة ولا بشيء مما حاصرهم به، وكانوا أهل المدينة يخرجون في كل حين على غفلة فيغيرون على عسكره ويقتلون خلق كثير ويدخلون مدينتهم، فلما رأى ذلك الملك الملعون، تشبه بالشيطان الذي كان هو قاتل الإنسان منذ القديم، بعث إلى الذين يخافون الله ويعبدونه، وجعل يحلف لهم بأيمان الناموس العظام ويقول "إني لا أضر أحد من أهل المدينة ولا أهرق فيها دم ولا أكلف أحد أن يجدف بما يعبد من الدين، ولا أريد إلا أن أصير عليكم خراجا تؤدونه إلي، وأدخل المدينة فأنظر إليها وأعرف كيف هي، وأعطا منكم ما أنا أهله في هذه السنة، على أني أصير على رأس كل رجل وامرأة، حر كان أو عبد، شيخ كان أو صبي، أو فلاح أرض أو صانع، أجعل عليهم خراج مثقال واحد". وزن هذا المثقال إثنا عشر قيراطا بوزن الروم، وتلك السكة كان قد صيرها ملك سبأ. فكان ما يجتمع من ذلك القانون على ما شرط الملعون من أهل مدينة نجران من أرطال الذهب ألف وستمائة وتسعين رطلا.
فأما محبين الله الذين كانوا في المدينة فإنهم كانوا معتادين أن يخضعون للوصايا المقدسة التي أوصى بها المسيح المخلص. فقالوا له "أيها الملك، إنا نحن تعلمنا من الناموس ومن الأنبياء والرسل، التلاميذ المقدسين، أن نعبد الله ونخضع للملوك فيما ينبغي، فنحن فاتحين المدينة لك لتدخلها أنت ومن أحببت، وأعلم أنك إن غدرت ولم تفي بما حلفت وقلت، فإن لنا إلها قادر أن يعيننا ويرد شرك على رأسك وعلى ملكك، وأن لم تفعل ذلك فإنا قائلون لك كما قالوا الثلاثة الغلمة، حننيا وعازريا وميصايل، أنا لا نعبد إلهك ولا نقر بتجديفك ونحن نرى أن الموت لنا ربح منك وعلى ذلك فنحن بالمسيح الذي مات من أجلنا وأحيانا بموته، فنحن به أحياء".
فلما قالوا ذلك فتحوا باب المدينة. فدخل الغاش الغادر الكذاب ملك سبأ، فلقيه ريسا المدينة والحارث معهم، فسلموا عليه تسليما بسجود على الأرض. عند ذلك امر ن يجتمعون باجمعهم، وكان اول ما بدا بهم من الصنيع انه امر ان يقبض ما كان لهم من مال.
وامر ان يقدموا اليه اسقفهم بولس، فقالوا له انه قد مات منذ عامين، فلم يصدق قولهم حتى بعث الى موضعه فنبش عظامه، وامر ان تحرق عظام القديس بالنار وتدرا في الريح، جميع ما اخرج من القبر من عظام القديس بولس الاسقف. عند ذلك، امر برباط جميع من قدروا عليه من اهل المدينة، ثم امر اصحابه ان يجمعوا حطبا كثيرا ويوقدوا نارا عظيمة، ففعلوا ذلك، وبلغ ارتفاع تلك النار شي كثير. ثم امر ان يطرح فيها من ربط من الكهنة والشمامسة والرهبان، ومن كان من النساء الساهرات في الليل بالقراه في الكنايس، وكل من كان متعبدا لله في الكنايس في تلك المدينة وما حولها من العذاري الناسكات اللواتي كن يخدمن في هيكل الله بالليل والنهار.
وامر بكل هاولي ان يلقوا في حامية النار التي اوقد، ارادة منه ان يفزعوا منه جميع من بقي من النصاري، وكان عدد أوليك اربع ماية نفسا وسبعة وعشرين نفسا. ثم انه بعد ذلك، امر ان يطرح الحارث في غل، وجميع من كان معه من الريسا والاشراف من اهل المدينة باغلال من حديد. وكان المنادي ينادي بلغة حميرية ويقول: "اكفروا بالذي يقال له المسيح الناصري وتهودوا وكونوا على ديني لكيما تحيون". وكانوا الشهدا القديسين يقولون: "معاذ الله ان يكون لنا هذا ونكفر بالدين الذي عليه عمدنا. فاجاب الملك الكافر للقديسين وقال: "ان الروم قد عللوا ان اباينا انما صلبوا انسانا باورشليم، وقد كانوا كهنة وعلما بالناموس. وانما ضربوه وشتموه واماتوه بقتل قبيح لما علموا انه ليس باله. فلاي شي تضلون انتم في اثر هذا الانسان؟
العلكم افضل من الروم، الذين يقال لهم المنانيين، الذين هم عندنا اليوم؟ وهم يخبرونا ويقولون: انا ليس نقول انه اله، ولكن نبيا. فلست اريد منكم يا اهل نجران ان تكفرون بالله الذي خلق السما والارض، ولا ان تعبدون الشمس والقمر ولا النجوم التي في السما، او شي في الارض من الخلق، او شي مما في البحور والانهار. ولكن اريد منكم ان تكفرون بالذي يسما يسوع، الذي كان يجدف ويجعل نفسه الاها. ولكن تقولون هذا فقط: ان الذي صلب انسان وليس الاها". فقالوا له القديسين: "عن انفسنا وعن جميع امتنا، وعن كل من كان منا بسبيل، نجيب ونتكلم ونشهد ونعترف بالاعتراف الصالح الذي به عمدنا بسم الاب والابن وروح القدس. ولا نكفر بجوهر الله ولكنا نقول ان يسوع المسيح الذي انت تجدف عليه، انه احد الثالوث القدوس. هو كلمة الاب الذي تجسد في اخر الازمان منجل خلاصنا، من روح القدس ومن مريم العذرا. وقد اعلمنا في كلامه المقدس "انكم ساتساقون الى الملوك والسلاطين منجل الشهادة عليهم وعلى الامم". فاما انت فنحن نكفر بك وبما انت عليه. انت الذي غدرت باله الناموس وكذبت الحق". عند ذلك ري ان ياخذهم بلطف وحسن كلام ورفق لكي يكفروا بالمسيح، فلم يوافقوه. وكان قولهم له: "لو انك اردت ان تبيدنا بالعداب والنار لم نكفر به ولا بالايمان بالثالوث القدس، لان حياتنا وموتنا بالمسيح". وكان فيهم ريسا ومعلم وسابق بالاعتراف وبالامانة بالمسيح، رجل يقال له الحارث الذي ذكرناه، وهو كان بن رجل حنيف، وهو كان ريس القوم ومتقدمهم. وكانوا اهل المدينة قد عرفوا كفر الملك ونفاقه، فهربوا واختفوا في الجبال والمغاير واحجرة الارض. وليس كان فرارهم من الشهادة والسعادة، ولا الفزع منه، ولكن كان رجاهم ملكوت السما. فكانوا في الصحاري يصلون ويدعون الذي يسمع دعوه فراخ الغربان فيرزقهم الطعم. وكذلك قال اشعيا النبي وهو على ذلك ان يخلصون فيكونوا بقية زرع في طاعة الله وعبادته. كما قال النبي اشعيا: "لولا ان الله ابقا منا بقية زرعا لكنا مثل اهل سدوم وعمره واشباههم". ولكن لكيلا يهلكون ويبيدوا من قبل اللعين الكافر. فبلغ عده من اخذ من الرجال والنسا والشباب والصبيان والشيوخ من اهل المدينة والكورة مما حولها اربعة الف ومايتين واثنتين وخمسين نفسا. فقتلهم على الاعتراف والشهادة بالمسيح. ورفضوا بالدنيا الذاهبة التي هي دار الغرور والباطل. وانه عندما اراد ان يقتل الشهدا جمع النسا واولادهن وجعلهن في بيت على حدة، مقابل الرجال. فصنع ذلك يريد ان يرفق بهم ويطغيهم باللين وحسن اللفظ، لكيما يكفرون بالمسيح. واذ هم اجمعين: الرجال والنسا والصبيان، يدعون دعوة واحدة باعلا اصواتهم ويقولون: "نعوذ بالله ان يكون لنا هذا! ولكنا نكفر بالاهل وبكل ما في هذه الدنيا، وبعد ذلك نحمل الصليب ونتبع منجلنا شهد على عهد بيلاطس البنطي". فلما ري ذلك منهم الملك الملعون، جعل يكلمهم برفق ولين، ويطلب اليهم بخداع وحسن لفظ مع طمع كثير يطمعهم، ويقول لهم: "لا تضلون وتتبعون الذي يقال له المسيح، الذي ضربوه اباونا بالعصي وصلبوه وقتلوه، ولكن طيعوني وتهودوا، فتعيشوا مع بنيكم. وان لم تطيعوني فها تموتوا موتسو". عند ذلك صاحوا النسا مع صبيانهم وبدوا وقالوا: "نحن نومن بالمسيح، ومنجل اسمه نموت طيبين الانفس. ونعوذ بالله ان نكفر به. ولكنا نسبحه ونعظمه وهو اله وابن اله، حيا دايما، ونحن له عبيد. ونسجد لصليبه، وعلى اسمه نموت. ونعوذ بالله ان نحيا بعد قتل ازواجنا". فقال لهم الملك المنافق: "ايه النسوة، وترضون ان تموتوا في شان رجل ساحر وضال؟". وان عشرة منهم من الصالحات وممن اكتسين كسوة العفاف والعذره وقالوا للملك اليهودي: "يقطع لسانك المجدف، وفاك النجس يسد ايه الكافر". عند ذلك غضب الملعون غضب شديد، وامر ان يذهب بهن الى حفرة هناك ليضرب اعناقهم، حيث كان قتل قبلهم الشهدا. وكان عدد اوليك النسا الذين قتلوا، مايتين وسبعة وعشرين. وكانوا الجند يجرونهم بشعورهم الى القتل وهن طيبات الانفس بذلك فرحات. فلما بلغوا المكان الذي امر ان يقتلوا فيه جعلوا الرهبانيات يطلبوا بعضهم من بعض ويقولوا: "اتركونا نحن نكون السابقات والاخذات هذه العطية الفاضلة، التي هي الشهادة. لانا بخاتم العذره، ونحن لابسات الاسكيم الرهبانية الذي للملايكة، وان كنا ليس لذلك اهلا. وانتم تعلموا ان في اخذ القربان المقدس الذي به نطهر من خطايانا، وحياة الانفس، نحن كنا نتقدم الى ملكنا المسيح. والخدام كذلك كانوا يقدمونا الى اخذ القدس كنحوا مما ينبغي ان يكون في شكل الكنيسة وصواب الوضع فيها. وكنتم انتم تتقدموا على اثارنا الى القربان المقدس واخذه. فهذا مما يجمل بنا ان نتقدم الى كاس الموت قبلكم وقبل ازواجكم، ونذوق طعمه. وكان هذا من قول النسا الرهبانيات بطيبة الانفس وبشاشة القلوب. فاجابوا النسا العلمانيات وقالوا: ليس كذلك نفعل ها هنا لانا نسا الشهد وامهات الشهد. فينبغي لنا ان نقتل قبلكم لكيلا نري قتل ازواجنا واولادنا وكيف يموتون. وكانت كل واحدة منهم تطلب الى من كان يسوقها الى الموت من اوليك الجند ان يوصي بها بالقتل. وكان من حضر ذلك من الامم وساير من اتبع الملك الكافر من جميع من في تلك البلاد من الناس، لما راوا من الشدة والمنظر الفظيع، كانوا يضربون على وجوههم، وجدا، على ما يرون ببكا مر وصرير الاسنان وقرع على الصدور. فضربت اعناق النسوة القديسات وهم يدعون بسم الاب والابن وروح القدس. عند ذلك قال الملك اليهودي الضال لعظمايه وهو كالمستهزي: " الا ترون الى ضلالة ذلك المصلوب، كم قدر على ان يجعل في الدنيا من اتباعه!". ثم انه ارسل الى سيدة المدينة وكان اسمها دهما ابنت ازمع، وامر عدوا الله اناس من عظمايه وريسا قومه ان ياتوا بها بكلام حسن، وان يوقفوها قدامه بكرامة ودعة ورفق، يظن بذلك انه سايزيلها عن هواها. وكانت لدهما ابنت ازمع من الحسن والجمال ما ليس لاحد من الناس مثله، فامر ان تحفظ مع ابنتيها، وكانتا ابنتيها ايضا لهما من الحسن والجمال ما ليس يوصف. فلما اتوها رسل الملك في السجن، قالوا لها: "إن انت اطعت الملك على ان تكفرين بالذي يقال له المسيح، تعيش نفسك بكرامة وانفس ابنتيك". فلما سمعت بما بعث به اليها الملك، قالت للرسول المبعوث اليها: "اذهبوا الى الملك واخبروه اني سارضيه فيما يسلني". وانما ارادت بذلك لكي تخرج فتتبع بنات عمها اللاتي شهدوا قبلها. فلما سمع بذلك الرسول منها اتوا بها الى الملك، وظللوا عليها بمظلة وهي تمشي لكيلا تصيبها ولا بنتيها الشمس، وكن يمشين وهن حييات الانفس، مستوحشات لانهن لم يحضرن في الشهادة مع بنات عمهن.
وكانوا الرسل يحملون المظلة وهم يمشون ليلا تصيبهم الشمس، لان دهما لم تكن اصابتها شمس قط، الا شعاعها فقط، فان ذلك ربما كان يدخل عليها وهي في خدرها، في بيتها.
فلما اوتي بهن قدام الملك اللعين الرجز الذكر الوسخ، قال الملك لدهما: "ايها المرة، لا يغرك سحر المصلوب، ولا تريدين ان تسلكون مع من قتل من اهل مدينتك من الرجال والنسا، لانك انت امرة لك حسب وكرم وموضع في البيت الشريف، من الحسن والجمال الذي اعطيت وابنتيك معك، وقد بلغني انه لم يراك رجل قط غير زوجك الذي تزوجتيه بالامر الجميل، وقد كان في فناء منزلك ثلثماية رجل يختلفون في امورك، وخدمتك وضياعك واموالك، الى يوم الناس هذا الذي انت فيه واقفة بين يدينا، فأطيعي الملك فتكوني مكرمة مني ومن الملكة في دار الملك". وان المرة اجابته قايلة: "لست اكرم من انسان يعبد الهة كثيرة، ولا اساكن مجدف، ولا من يحب ان يكلف الناس التجديف، ومن يسمي الاهنا ساحر، وهو الذي جعل الملوك يملكون".
حينيذ امر ان يكشف راسها وراسي ابنتيها ويوقفون مكشوفات الروس. فالتفتت القديسة فنظرت الى جماعة من النسا يبكين وينحن، فقالت لهن: "ايها النسا العفيفات الصالحات اللتين هن على هواي ومن كان منكن يهودية او حنيفية فاسمعن كلامي، انتن تعلمن اني امراة نصرانية مسيحية، وقومي اجمعين على ذلك من الدين ولله الشكر". "وانتن تعرفن اي منزلة كنت عليها، وكان مالي كثير من الذهب والفضة والنحاس، ومن الخدم والمواشي والمزارع ولم يكون شي يعوزني، ولو كان في نفسي ان اتخذ زوجا بعد وفاة زوجي لفعلت، ولم يكون يقدر احد ان يتوهم علي باني فعلت غير السنة، وانا قايلة لكن اليوم اني املك من المال اكثر من عشرة الاف رطل من الذهب والفضة مختوم عليه". "وانتن تعلمن انه ليس لمرة فرح اكثر من يوم عرسها، ثم بعد تلك الايام لا تزال في احزان واوجاع وشدة، واشد ذلك كله حين يحضر ولادها وحين يموت ولدها، وانا من بعد هذا اليوم اتبرا من هذه الاشيا كلها، واكون في الفرح مثل ايام عرسي . وابنتي هاتين عذراتين، فنحن نتزوج جميعا في الشهادة كعرس الفرح عند عروس الحق يسوع المسيح بن الله الذي نشر بحلته لخمسة عذاري اللاتي حملن الزيت مع سرجهن. وانتم يا خواتي تعلمن انكن نظرتن الى وجهي مرتين من الدهر، اما مرة ففي جلبة عرسي الفاني وغير دايم، وهذا الان العرس الدايم وغير الفاني. واتفطن الي والى ابنتي لانا ليس دونكن في الحسن والجمال، ولا تظنوا اني بوجه قبيح وبنتي هاتين". "نعلن تجاهكم يا معشر الحراير، وانتم يا جميع الجند والجيوش، انا بحسننا وبحفظ الله الذي يحفظ عذرة بناتي بغير فساد، مع انا بالمسيح اصطبغنا، ويشهد الله ان هذا الانسان لا يستطيع ان يصيرنا نكفر بالمسيح، وانتم اليوم لي شهد، وذهبي وفضتي فانه يشهد لي في الاخرة اني لم احبه بل اني قد كنت اعطي كل محتاج ". فلما سمع الملك ذلك منها قال لها: "اني صبرت عليك منذ حين وتركتك في سعة من الكلام، تتكلمين بما شيت في سمع العالم، لكيما اذا رايت وجدهن عليك وبكاهن لك، لعلك يرق قلبك لهن فتسمعين مني وتطيعيني". فقالت له المرة القديسة: "تكلفني ايه الملك ان اكفر بالحياة الدايمة، واحيا في هذه الحياة الدنية حياة يسيرة، انا اخاف من النار والدود الذي لا ينام، فهو احب الينا ان نموت ولا نطيعك ايها الملك، لانا ان متنا على هذا الاعتراف حيينا الى الابد". ثم التفتت الى ابنتيها وقالت لهن: "انظرن لا تكفرن بالممجد من السرافين، ملك السموات، يسوع المسيح، ابن الله الحي، الجالس على الكروبين، الممجد من السرافين، فحاش لي ان اكفر بذلك الملك". حينيذ قال لها الملك وهو مغضب غضب شديد: "ايه المرة الطاغية، اعلمي اني ساعذبك عذاب شديد واقطع لحمك واخرج امعاك وانشر مخ راسك وبنتيك معك، حتى انظر هل ياتي ذلك الناصري الفاجر فيخلصك من يدي؟" وان احدى ابنتيها، الصغرا منهن، وكانت ابنت اثنا عشر سنة اقتربت اليه وهي مغضبة، فملت فاها ريق ثم بصقت عليه حتى ملات وجهه اللعين الفاسق.
فلما روا ذلك الذين كانوا حوله يحملون السيوف المسلولة، الذين يقال لهم السيافين، غضبوا غضب شديد وضربوا اعناق ابنتي القديسة. وان الملك اللعين امر بعض من كان حوله من الرجال ان يجمع الدم بكفيه ويسقيه لامهما، ففعلوا ذلك. فلما ذاقت الدم قالت: "أشكرك يا المسيح بن الله انك هييت لامتك ان تذوق دم ابنتيها، قربان ذبيحة الشهادة". عند ذلك امر الملك ان يضرب عنق القديسة، فتمت شهادة القديسات. وان الملك قال لعظماه وريسا قومه: "اني لواجد في نفسي وجد شديد". وحلف لخاصته واحباه وقال لهم: "لقد حزنت على هذه المرة وعلى ابنتها حزن شديد لاني لم ارى فيما رايت على صورتهن وجمالهن، فمن اين وقع في النصاري مثل هاولي؟ واني لاعجب كيف يضلون في انسان مات موتة سو وسما نفسه الاها". ولما كان من الغد، امر اللعين ان يوتى بالحارث القديس مع من كان معه محبوس، وكان عددهم ثلثماية رجل واربعين رجل، ثم قال: "لك اقول ايها الحارث الخبيث المعتق في ايام السو القديمة، لاي شي لم تشبه اباك الذي كان ريس المدينة والكور، وكانت له منزلة عند كل من كان قبلي من الملوك لنصحه وحرصه على مبالغة رضاهم؟ غير انك هممت بالنفاق وظننت في نفسك انك تكون ملك هذه المدينة وحولها، ورجاك بانسان مات موتة سو، وهو الذي سما نفسه الاها. وقد رجوت انت ان تفلت من يدي، فالان فاشفق على نفسك وعلى كبر سنك، واحفظ شيباتك، وكن شيخا كريما، واحيي نفسك ومن كان معك ماخوذا ومغلولا. فاما ان تكفر بالذي يقال له المسيح والا فانت تموت بموت سو كنحو من مات من النسا الاتي سبقنك، لانه لا يستطيع بن مريم ويوسف ان يخلص كل من قتلته في مدينتك وفيما يلي ارض سبا، ولا يقدر ان ينجيكم من يدي". عند ذلك اجابه الحارث الكريم بالحق وقال: "اني في حزن شديد من النصارى المومنين كلهم وايضا منجل النصارى الذين في هذه المدينة، لاني قد قلت لهم وحرصت بهم كم من مرة، وامرتهم الا يفتحو ابواب المدينة فلم يطيعوني. واشرت عليهم ايضا ان نخرج اليك فنقاتلك دون شعب المسيح فلم يرضون بذلك. وانا كنت واثق، متكل على المسيح انا نغلبك ونقتلك ومن معك، وان كان معك الوف كثيرة، كما كان مع جدعون الذي قاتل بثلثماية رجل فغلب بعون المسيح. انه هو المسيح ورضاه يكون، وهذه ماية الف وخمسة وثلثين الف اتت الينا منجل خطايانا، فلذلك لقينا ما ترى واسلمنا في يديك، وانت لم تاتي بصدق قط على فاك". فقالوا له جلسا الملك: "هكذا يعلمك كتاب النصارى ان تجاوب الملوك؟ اما تعلم ان ملوك اليهود مسحا الرب؟" اجاب الشيخ القديس وقال له: "زد في قولك قول الياس النبي حيث قال له اخاب ملك بني اسرائيل: "اني وجدتك مفسد اسرائيل". فاجابه عند ذلك الياس النبي وقال له: "بل انت المفسد، واهل ابيك المفسدين". لانه ليس يخطي من وبخ ملكا حين يكفر ويتبع غير الناموس، فكيف لم يستح هذا ان يقول لي ان اكفر بالمسيح، كلمة الله، التي بها خلق كل شي في السما وفي الارض، وبها خلق الخلايق كلها: ما يرى وما لا يرى؟ وهو الذي نظر الى خلقه محبوسين في فخ الشيطان فلم يدعهم ولكن جعل لهم ناموس ووصية ليودب الناس بترك المعصية والاخذ بالطاعة. فاما اسرائيل فما عمل من الشر ودب عليه، ثم رحمهم الله ايضا عندما ردهم من بابل، وان الخلق الذي خلق الله، على صورته وتمثاله، تهتك حين رفض بوصايا الله. فمنجل ذلك، المسيح الاهنا تنازل لمحبته فاتخذ الواقع، وصلب الخطية في جسده الذي اتخذ لنفسه، فصار ذبيحة لله الاب، بالجسد الموخوذ منا ومن جميع الناس. فكيف اكفر بالذي صنع الينا هذا الخير كله وخلص جميعنا؟
ولعلي لا احيا في هذه الدنيا ساعة واحدة حتى لا تبقا فيه حياتي، وتريد انت ان تغربني من ملكوت السما؟". "وانت ايه الملك الكاذب ملك ضعيف، حلفت لنا واعطيتنا عهدك، ثم لم تفي لنا بعهدك ولا بما حلفت، ولقد رايت ملوك وسادة في الهند وفي الحبشة وفي هذه الارض ولم ارى مثل الذي رايت منك، وكان عهدهم صادق، وان في العالم، الامم والقبايل وجميع الجنود يخضعون لهم بطاعة الله الذي جعلهم يملكون". "وانا اقول لك ايها الملك علما يقينا: اني لا اتبع رايك اذ انت مجدفا على الله، رب المجد، العزيز العظيم، وان لي سلطان على نفسي فليس ازول عن الاعتراف بالله. وبحق طوبا لي لاني في كبر سني وانا اليوم بن خمسة وسبعين سنة فجعلني المسيح الاهي مستاهلا ان اموت منجل اسمه. والان عرفت ان الله يحبني. ولقد كانت ايام حياتي كثيرة في هذه الدنيا وكان لي فيها بنون ورايت بنين اربع قرون، ولقد حضرت معاركا كثيرة مختلفة وسلمني منها المسيح. وانا افرح ايه الملك ان كبري كمل في شهادته مع شهادة هاولي القديسين".
"وانا ارجو من ربي المسيح، الذي اسواني ان اموت على اسمه ان لا ينتقص اسمي وذكري من هذه المدينة، وانا اصدق كما ان شجرة الكرم اذا نصبت في ايانها تطعم تمرة كتيرة، وكذلك سيكثر في هذه المدينة من النصارى وفي جميع ارض سبا.
وانا اقول لك ايها الملك، والله يشهد لي، انه ستعمر هذه الكنيسة التي انت احرقتها، واعلم ان الله سيقيم ملك في هذه الارض، ملك للنصارى، ويسقط ملكك ويبيدك ويبطل دعوتك وتقع سريعا".
ثم ان الحارث القديس التفت الى الشهدا القديسين الذين كانوا معه وصاح اليهم بصوت عالي وقال: "قد اسمعتكم ياخوتي ماذا كلمت به الفاجر الظالم!" فاجابوه وقالوا: "نعم يا ابتاه الكريم قد سمعنا". ثم قال لهم: "كيف ترون الشهادة؟ هل منكم احد خايفا ام جزعا من شر هذا الملك الملعون، فليعتزل عنا". فقالوا له القديسين جميعا: "انا نقر بالله ونتقوا يا بونا بانا في هذه الشهادة جميعا نموت معك على اسم المسيح، وليس منا احد يفارقك". عند ذلك قال الحارث القديس: " اسمعوا مني يا معشر النصارى واليهود والحنفاء، من كان من اهل سبأ، اي من يسييل فكفر بالمسيح الذي يدين الاحياء والاموات، يكفر به ولا يكون له معه نصيب يوم القيامة، وقد احببت ان اجعل في وصيتي من مالي للكنيسة المقدسة التي ساتبنا بعدي، فان تبقى احد من اولادي او انسباي وتمسك بهذه الامانة فليكون لي ورثة، وليكون افضل ما املك من الموارث، ثلثه للكنيسة". ثم ان الشيخ القديس المومن بالمسيح قال للملك الكافر الملعون: "اعلم اني قد مدحتك في خصلة واحدة فقط لانك حفظت القديم من السنة المعروفة، التي هي للملوك والعظماء، لانك صبرت ولم تقطع كلامي مع انك قد سمعت كل شي تكلمت به، فلا تسلني فقد حضر الايان فافرغ". ثم قال القديس: "من يكفر بهذه الشهادة كفر به الذي خلقه ويهلك من ارض الحياة، ومن ليس بمستقيم ويحرص على التقدم الى هذه الشهادة والدعوة المقدسة ولا يعترف بان المسيح بن الله الحي وانه خالق كل شي، يكون غريبا من الحياة الدايمة التي ترتجا، ومن يكفر بصليب المسيح يقع من الختن المرتجا". ثم قال للملك: "من اشركك ايها الملك على هواك وكان على ما اليهود عليه فليكون بمنزلة داثان وابيرام وقورح الذين فتحت الارض فاها وابتلعتهم، وكما اني قد كنت المبتدي مع اخوتي وبنوا عمي هاولي المكرمين لاخذ الكاس، كنت اولهم، كذلك اكون اولهم ايضا لاخذ كاس الشهادة واشربه قبلهم". ثم انه ختم على الشعب، الذين كانوا معه بخاتم الصليب بسم الاب والابن وروح القدس. وصنعوا كذلك، كل واحد من اوليك الشهدا، كل انسان على نفسه، وكانوا ايضا يصلبون بروسهم بالاشارة، لانهم كانوا مكتفين الايادي، كماربطهم الكافر الملك. وكانوا يصلون لربهم ويقولون: "اللهم اقبل انفس عبيدك مثل المعمودية المقدسة ودمانا كمثل ذبيحة التسبحة على المذبح". ثم صاحوا الى الحارث وقالوا: "يا بونا الكريم، ان ابونا ابرهيم ينتظرك، فلا يكون لنا ان نعيش بعدك". فلما ان ري الملك الكافر انه لا يقدر يزيغهم ظن دينهم والامانة بالمسيح، امر ان يذهب بهم الى حفرة في الوادي الذي كان فيه تضرب اعناق القديسين، وامر ان تلقا اجسادهم المقدسة ماكلة للسباع والطير. فلما بلغوا الشهدا الى المكان الذي كان يذهب بهم اليه ليقتلوهم فيه، وقفوا على مكان مشرف ورفعوا اعينهم مع اهواهم الى الله وصاحوا كلهم بصوت عالي وتضرع قايلين: "يا يسوع المسيح احضر لعوننا، ويكون هذا الدم المهراق من عبيدك على اسمك عفوا ورحمة للذين يقبلوا ويصرون ان يقتلوا منجل اسمك من قبل هذا الكافر وغيره. يا يسوع المسيح امنا بك واعترفنا باسمك، وقدام الناس كرزنا بملكوتك. يا يسوع المسيح ارحم واحفظ وخلص جميع النصرانية. يا يسوع عظم دين النصرانية وثبت ملوكها: ملوك الروم وملوك الحبشة، واسحق هذا الملك الكافر بايدي النصارى ليفعلون به مسرتك. يا يسوع المسيح احفظ جميع النصرانية ومن كان عامر فيها بالامانة في اطراف العالم. يا يسوع المسيح ابطل واهلك هذا الكافر واهدم قوته مثل ما صنعت بفرعون وعماليق وسيحون وعوج. يا يسوع المسيح اجعلنا اهلا ان ننظر الى عزتك وان نبشر من ملايكتك القديسين بوقعة هذا الكافر التي ساتكون سريعا، واهلك كبريا اليهود الخبثا". فلما فرغوا من صلاتهم ودعاهم صاح كل واحد منهم الى صاحبه قايلين ببكا: "السلم عليكم". عند ذلك قال الحارث القديس: "سلم الاله المصلوب الذي اعطا التلاميذ القديسين يكون معنا يا اخوة". ثم انه طاطا راسه وسجد وجميع الشهدا، ومنهم اربعة قبلوا صدر الحارث وجعلوا يضمونه رفقا وشفقا، وكانوا يرفعون يديه على نحو ما كان ذينك الاثنين يرفعا يدي موسى النبي في الجبل. ثم انه تقدم رجل من الجند فضرب عنق القديس الحارث. عند ذلك اخذ جماعة من القديسين من دمه فتمسحوا به، وصلبوا بدمه على اعينهم، فجعلوا اوليك الذين امروا بقتلهم يتعجبوا ساعات ويبكوا لما روا من المنظر الفظيع. ثم ان جميع الشهدا القديسين بسطوا ارقابهم، وضربت اعناقهم اجمعين. وكان ذلك في اخر شهر الروم سبتمبرس، في ثلثين يوما منه، وهو من اشهر العجم بربرطرس.
وان امراة من المدينة كان لها ابن حين مضا له اربعة سنين، وكانت المرة تنظر كيف كانوا الشهدا يتبركون ويتلطخون بدم الحارث القديس، فاسرعت واخذت من دم القديس وتمسحت به ومسحت ابنها وصاحت باعلا صوتها قايلة: "يكون لملك اليهود ما كان لفرعون". عند ذلك اخذوها وقدموها الى الوالي، الملك الملعون. فامر ان تحفر حفرة وان يجعل فيها حطبا ونفطا وزفتا وامر ان يوقد فيها النار، وامر فالقيت فيها تلك المرة. فلما جعلوا الجند يربطون تلك المرة، نظر ابنها الصبي الى الملك، وهو جالس على مكان مشرف، فاسرع اليه وجعل الصبي يلزم رجلي الملك ويقبلهم. فلما راه الملك بسط يده فرفعه ووضعه في حجره، ثم اخذ يكلمه برفق ولين: "يا صبي اخبرني، ايش تحب؟ اذهب بك الى امك او تمكث عندي، فاتخذك ولدا؟". فقال الصبي: "اذهب الى امي احب الي، لانها قالتلي: "اذهب بنا يا بني فنستشهد كما شهد غيرنا". فقلت لها: "وما هذه الشهادة يامه؟" فقالت: "الشهادة يابني: الموت منجل الله ثم الحياة بعد ذلك الموت". وجعل الصبي يقول: "اتركني اذهب الى امي فانها اراها تربط، وجعل يصيح: "يامه، يامه!" فاجابته امه وهي تقول: "استودعتك الله يا بني الذي هو قادر ان يجمع بيني وبينك في ملكوته". عند ذلك قال الملك للصبي: "تعرف الذي يقال له المسيح؟" فقال الصبي: "نعم!" فقال له الملك: "من اين تعرفه؟" فقال الصبي: "حق اقول لكم اني كنت كل يوم اراه في الكنيسة حيث كنت اذهب مع امي للصلاة، فان كنت تحب ان تراه فهلم معي فاني اريك اياه". فقال له الملك: "من احب اليك، انا او الذي يقال له المسيح؟" فقال له الصبي: "المسيح احب الي منك، لان له نعبد، فاتركني اذهب الى امي". فقال له الملك: "لم تركت امك وجيت الي تقبل رجلي؟" فقال له الصبي: "كنت اظنك نصراني، وتخلي امي". فقال له الملك: "انا يهودي، فان احببت ان تمكث عندي فانا اطعمك جوز ولوز، وكل ما احببت من فاكهة". فقال له الصبي: "اتركني اذهب الى امي فاني ليس اخذ منك لانك يهودي". عند ذلك قال الملك لجلساه واصحابه: "اترون الى عرق السو كيف يجيب بحلم ودعة؟". فقال للغلام انسان من جلسا الملك: "هلم معي يا غلام فانطلق بك الى امراة الملك". فلم يجيبه بشي لانه كان ينظر الى امه قد ربطت والقيت في حامية النار. وكان الصبي يصيح ويقول وهو يبكي: "اريد امي، اريد امي!". وكان يتفلت للقيام اليها، وكان الملك يمنعه ويحبسه عن ذلك، وان الصبي لما حرد قبض على فخذ الملك فعضه باسنانه، وان الملك دفعه الى انسان من عظمايه وقال له: "ضمه اليك وربيه تربية حسنة وعلمه شرايع اليهودية".
فاخذ ذلك بيد الصبي واخذ ينطلق به الى منزله، فلقيه انسان من عظمايهم فجعل يحدثه عن ما كان من الصبي وكيف كان قصته وقصة الملك، وكيف كان كلام الصبي للملك وعضه لفخذه. وكانوا وقوف بعيد من الحفرة التي القيت ام الصبي فيها، فتركهم الصبي واخذ يعدو جريا حتى القا نفسه في الحفرة مع امه في حامية النار، فمات شهيد حريقا هو وامه. فيا عجباه للرب تبارك وتعالا لصبره ومهله وطول روحه. واتوا ايضا بامراة اخرى للشهادة مع القديسين، فلما اتوا بها تساق الى موضع النار لتطرح فيها، فلما دنت من النار نظرت الى هول عظيم، حينيذ ضمت ابنها الى صدرها وبكت بكا شديد من الحزن والرحمة لابنها، ثم قالت: "وارحمتي لك يابني من حر هذه النار". فاعطا الله الغلام ان يتكلم، وفتح الله فمه وقال لامه: "امضي بنا الى النار، فلا نار بعدها ابدا".
وكان الصبي بن تسعة اشهر. فلما سمعت امه هذا الكلام وما اعطا الله الصبي، سبحت الله كثيرا، ورسمت على وجهها رسم الصليب وقالت : "باسم الاب والابن وروح القدس". والقت نفسها، وابنها معها تحمله، حتى وقعوا في النار التي هبت في الحفرة. فلما راو ذلك جلسا الملك اقبلوا يطلبوا اليه ويسالوه ان يرفع عنهم القتل، ففعل ذلك. فلما كان بعد زمان بدا الفاجر يحرك ما كان عليه من سو الراي في قتل من بقي من النصارى، فامر ان يجمع اولاد النصارى، من كان من الاشراف او من دونهم، من اهل المدينة والكورة، من الصناع والمزارعين وغيرهم ممن كان بن خمسة سنين الى بن خمسة عشر سنة من ذكر او انثى. فلبغ عددهم الف ومايتين وسبعة وتسعين نفسا، فقسمهم على عظمايه ومن كان يعينه على النصارى، فاستعبدوهم وجعلوهم عبيد لهم واما. استعبدوا الاحرار وابنا الكرام، وهو العبد السو الملعون الذي عبد نفسه للخطية ووهب بني الامانة ودين ابرهيم للعبودية، الذين اعتق المسيح من لعنة الناموس بدمه الكريم. ما اعظم امورك يا رب، ومن يقدر يصف طول صبره ومهله! وان عدوا الله حين قتل القديسين الشهدا رجع الى مدينة ملكه بعظمة وكبريا على الخالق. فترايت نار عظيمة في السما وكانت الى جانب الثريا التي هي سبعة انجم، فكانت تلك النار تملا السما، فكان فزع وخوف شديد يفزع كل مقاوم لله. فلبثت تري في السما اربعين ليلة من عشية الى انتصاف الليل، وكانت بالنهار تصير سحابة ويكون على الارض غبرة ودخان سخن.

"ايا نجران مدينة ارضية لها شرف سماوي وكواكب مكللة هم شهدا الذي اعترفوا بالشهادة الصالحة، ايا نجران المدينة التي تقاتل من اركون الشيطان ومن شياطين الهوا المظلم، وكواكبك المعلقة ينتظرون لقا الرب، يا مدينة نجران تشبه نفسها باورشليم الارضية التي الجبال حواليها، فاما انت والشعب الذي فيك والشهد، فان الرب يحفظك الى الابد، ايا نجران مدينة باس، مدينة صهيون، الرصد الثاني، رصد كنت للذين يبشرون بكلمة الله، ومن اجله الى مبلغ الموت رضوا.
سميت نجران، على لغة العبرانية، تاويل نجران رعد، الى السما ذكر شهادة شهداك وقديسيك الذين شبهوا شهادة المسيح.
دعيت لانك اقمت دعايمك وابوابك الوثاق وعلاماتك البينة، الذين هم الشهدا المعترفين الذين لم يغلبهم المصارع بالكفر والاثم والباطل. يا نجران مدينة نابعة امياه مختلفة حية متكلمة، التي رات الموت ربح قدام السفها، ومنظر اعينهم وهم احيا الى الابد، وهي في وسط جماعة الشهدا وكثرتهم. حية دعيت لانك فيك التعليم المعظم: وهم الشهدا الذين قاوموا الكفر، بالشهادة والاعتراف بلغوا الى مبلغ الموت. يا مدينة نجران التي احزنت باحزانها جميع الملوك الذين في الارض، وافرحت بتجديدها كثرة جماعة الجنود السماوية".
وكان الكافر يحكي الكفر والنفاق الذي قال فيهم النبي، حيث قال: والثلثة لكافرات والكفر فيهم الاوله والثانية والثالثة يعتمل التي نذر اليه، ولكن بها اهلك الكافر مثل ما اهلك فرعون. وكان عدو الله، الفاسق في دين الله، وهو الفرعون الثاني، قد كتب الى ملك فارس يسله ان يقتل كل نصراني في بلده، مثيل ما صنع هو. وذكر في كتابه اليه ان الشمس راضي بالشمس وهو اله اليهود. وكتب ايضا الى من كان على العرب من يد تحت صاحب الفرس، وبعث اليه رسلا واعلمه ما كان من صنيعه بالنصارى، وساله ان يصنع بهم مثل ذلك على ان يدفع اليه، ان فعل ذلك، ثلثة الف دينار، ويامر ان يكون في جميع سلطانه طرد للنصرانية. وانه من توفيق وصنع الله في قديسيه من ملك الدنيا والاخرة، الذي موت احباه كريما بين يديه، انه جعل في نفس يسطينيانوس ملك الروم المومن الفاضل محب المسيح، ان يبعث ابرهيم الفاضل، محب الله، وكان قسيس، الى الذي كان والي على العرب يدعوه الى المصالحة مع العرب الذين كانوا من حزب الروم وسلطانهم. وكان الوالي الذي على العرب من حزب الفرس، فاذا كتاب عدوا الله على تلك الحزة يقرا، وابرهيم هذا القسيس، رسول الملك يسطين، يسمع.
وكان رسول صاحب الفرس حاضر، وكانوا رسل اهل العراق من النصارى الارثذكسيين، الخالصين الامانة: سمعان القسيس ويحنا الكاهن، وكان يحنا بن القومس، وريدان وايوب رسلا النصارى هنالك. واقبل اسقف من العراق مخالفا يقال له سيلا ومعه نحوا من خمسين رجلا. فارادوا ان يجادلوا ويدارسو من كان هناك من النصارى الارثذكسيين خالصين الامانة من الروم وغيرهم من الفريقين، ارادة منهم ان يرضون بذلك الحنفا واليهود، وكانوا يطلبوا الى صاحب السلطان ويسلوه ان يعين صاحب سبا، وان يتبع هواه ويفعل رضاه. وقالوا له: "نحن قوم من الفرس، قد علمنا ان ملك اليهود واحبارهم قد علموا انهم انما صلبوا انسانا وليس اله، ونحن قد سمعنا من معلمينا واساقفتنا وغيرهم، وكذلك نومن ان المصلوب انسانا تاما، كان قويا ولم يكون الاها".
وكانوا مستهزيين قايلين ذلك لجميع الحنفا واليهود واصحاب الاوثان، وكانوا يقولون: "ايمكن ان يكون الاها يولد من امراة، ويخالط دمها ويلفف بالخرق ويجوع ويعطش ويخاف او يعيا او يموت؟". كما ان يحنا وابرهيم واسحق ومن معهم من الروم والفرس فصرخوا: "اتشكون بانه اله يموت، لا يقوم؟!" حينيذ ابرهيم، ومن معه من الروم، واسحق ومن معه من الفرس الذين هم على الامانة المستقيمة، لما سمعوا ذلك خزقوا ثيابهم وبدروا التراب على رووسهم وصاحوا قايلين: "معاذ الله ان يكون دين الروم كما يقول الكافر، ولكن ديننا على تعليم القديسين الابا والانبيا واساس التلاميذ الرسل الذين هدوا الناس الى دين الله، وليس كما يقولون السفها. وان هاولي المخالفين من اتباع تعليم نسطوريوس المخالف المحروم الذي شق الرعية وخرج منها وصار محروم، ملعون، ومن اتبعه من الكنيسة الجامعة الرسولية. فانهم يترددون ويتنقلون من مكان الى مكان يريدون ان يزيغون من كان عمي وليس له علم".

التعليقات: 0

إرسال تعليق

تعديل